«التنافر المعرفي» في حياتنا

admin
مجتمع
admin15 سبتمبر 2017
«التنافر المعرفي» في حياتنا

أتَيْتُ بمَنْطِقِ العَرَبِ الأصِيلِ
وَكانَ بقَدْرِ مَا عَايَنْتُ قِيلي
وَلَيسَ يَصِحّ في الأفهامِ شيءٌ
إذا احتَاجَ النّهارُ إلى دَليلِ

«أبو الطيب المتنبي»

قبل نحو ستين سنة، قدّم عالم النفس الاجتماعي «فيستينغر» ما سمي بنظرية «التنافر المعرفي» وفحواها أن الإنسان يسعى إلى التوفيق بين توقعاته وبين واقعه أو بين أفكاره وسلوكه. وبسبب هذا، فإن الناس يعملون على التقليل من هذا التنافر لتحقيق حالة من التناغم بين معتقداتهم وتصرفهم. وهذا التناغم بدوره يعمل على تخفيف حدة التوتر النفسي والضيق الناتج عن هذه الازدواجية.
فالشخص المدخّن يعرف في الغالب أن التدخين مسبب للسرطان. ولكن من أجل تجاوز هذا التناقض، قد يلجأ إلى إنكار المضار والتشبث بفوائد مزعومة للتدخين – كطرد الهموم والانتعاش – لإزالة التوتر وتخفيف التناقض الناتج عن الهوة الحاصلة بين مداركه وتصرفه. والتاجر الذي يبيع دواءً أو بضاعة فاسدة، قد يقع في التناقض بين مذمومية الغش وتصرفه في هذا الجانب. ولكنه قد يبرر لنفسه فعله، بأنه يقدم البضاعة بسعر معتدل أو أن غيره يفعل مثله. والقاضي المرتشي، قد يقع في تناقض بين حدود الشرع وتصرفه. ولكنه من أجل أن يستمر في غيه، لا بد أن يخفف حدة هذا التناقض بجعل رغباته بديلا لمعتقده، فيقنع نفسه بأن ما يأخذه هو هدية وليس رشوة، وأنه يصرف جزءًا منها في الصدقات. فلولا محاولة الإنسان التقليل من هذا التنافر، لما استطاع المنافقون وأصحاب المهن غير الإخلاقية العيش دون اضطراب نفسي. والأمثلة على التنافر المعرفي كثيرة لا تنتهي.
هناك علاقة وثيقة بين صنع القرار والتنافر المعرفي. فالإنسان يمر بمفترقات طرق وقرارات لا يعرف نتائجها على وجه الدقة. وأنت لو خيرت بين وظيفتين، احداهما قريبة إلى قلبك ولكن بمرتب ضئيل، والأخرى لا تحبها ولكن مردودها المادي كبير، سيوقعك هذا في حيرة. ومهما كان قرارك، فإنك ستعمل لاحقًا على تعظيم مزايا الوظيفة التي اخترتها وتهميش عيوبها، في مقابل الوظيفة التي تركتها، لكي لا تشعر بالندم.
وهناك مفهوم قريب من نظرية التنافر المعرفي يسمى التفكير الرَّغَبي. والتفكير الرَّغَبي هو تفسير الحقائق والوقائع والأحداث، وما إلى ذلك، وفقا لما يرغب الإنسان أن يكون عليه الحال، وليس وفقًا للأدلة الفعلية. فالرغبة في تحقيق نتيجة ما، ترفع درجة التفاؤل بإمكانية تحقيقها. فَلَو راهنت – مثلًا – على فوز هيلاري كلينتون برئاسة الولايات المتحدة، فهذا يزيد من قوة إيمانك بفوزها. فالإنسان قد يكذب الكذبة ويصدقها.
وبعكس ما يعتقد أكثرنا بأن التفكير الإيجابي والرغبي يقود لتحقيق نتائج إيجابية، فإن هناك كمًّا هائلًا من البحوث يثبت العكس. فالنظرة المثالية لمستقبلنا، قد تقتل الحافز لدينا لصنع مستقبل أفضل، فنتعثر وننكب على أنوفنا دون أن ندرك ذلك. وأكثر النجاحات التي تحققها الأمم والأفراد، تتحقق بمواجهة الواقع والتصدي للبيئة العدائية حولها من خلال الكفاح وتحمل نسبة معقولة أو محسوبة من المخاطرة. فأحلام اليقظة والتمنيات تجعلنا نشعر بالارتياح على المدى القصير، ولكن لا نتيجة إيجابية لها على المدى البعيد، سوى الخيبة على أرض الواقع.
والحال كمن يستخدم بطاقة ائتمان لشراء حاجياته والسفر والترفيه عن نفسه وهو في غاية السعادة. ولكن لا مفر من الغد الذي يأتي بالفاتورة التي يتحتم دفعها كاملة أو الغرق في مشاكل ديونها. وأحيانًا يكون تسديد هذه الفاتورة دماء وأشلاء واحتلالًا وضياع أوطان. وهكذا هي سنة الحياة ونواميس الكون، إن لم نحتزم لها، لا تنقذنا أحلامنا الوردية. فربما كان الأفضل هو الأخذ بأسوأ الاحتمالات والتصرف على أساسه، بدلًا من الاتكاء على أحلام اليقظة والتواكل.
والسؤال هو لماذا يلجأ الناس إلى التفكير الرغبي بالرغم من أنه قاتل؟ والجواب هو لأن معظم الناس يرغبون في الهروب من مواجهة مشاكل الحياة القاسية، ولا يريدون أن يخرجوا من منطقة الراحة الخاصة بهم. وقد يلجؤون حتى للغيبيات والتنجيم لإضفاء الطمأنينة على نفوسهم. فالحلم الإيجابي قد يكون مفيدًا في حماية الإنسان من بعض الأمراض وارتكاب بعض الحماقات كالانتحار. ولكنه بالتأكيد لا يجلب فعلًا مؤثرًا وتغييرًا إيجابيًا على أرض الواقع.
فالتفكير الرغبي الذي ساد مجتمعنا لعقود، بأن أحوالنا ممتازة وأنها سوف تتحسن للأفضل وأننا سوف ندخل فلسطين فاتحين، وسوف يهرب الصهاينة من أمامنا، كل هذا زاد من تخديرنا ومنعنا من القيام بفعل مؤثر نعدّ به أنفسنا لمواجهة المستقبل. فاليهود في نظرنا جبناء لا يقاتلون، والآخرون لا تقوم لهم قائمة، فلماذا نعيرهم اهتمامًا؟ وكلما تمدد هؤلاء وزاد نفوذهم وحصارهم لنا، زدنا بالكذب على أنفسنا بأن نهايتهم قريبة. ونقوم بانتقائية مفضوحة باستحضار كل ما في تراثنا من نصوص تقعدنا عن العمل، في انتظار «غودو» الذي لن يأتي أبدًا.

……………………

مر الإنسان بمفترقات طرق وقرارات لا يعرف نتائجها، ووجد المختصون أن عقل الإنسان ينجذب نحو القرارات التي تؤيد معتقداته واتجاهاته الفكرية، بل هو أيضًا يبحث عنها ويتجاهل الأفكار والأفعال التي تتعارض مع قناعاته الشخصية.
هذه التحيزات المعرفية من الممكن أن تجعل الفرد يتخذ قرارات خاطئة، لأنه لا يرى الحقيقة كاملة أو يتجاهل رؤيتها، لكن مع الانفتاح الثقافي أصبح من الصعب أن يعزل الفرد نفسه عن كل ما يتضارب مع معتقداته الداخلية.
كل مناقشة يقوم بها الفرد مع المعلومة المتنافرة لا تكون مناقشة منطقية

قدم عالم النفس الاجتماعي ليون فيستينغر عام 1957 نظرية “التنافر المعرفي” التي تتلخص بالاضطرابات النفسية التي تتزاحم داخل الفرد عندما يفقد التوازن بين معتقداته وسلوكياته، محاولاً التوفيق بين أفكار أو سلوكيات أو اتجاهات متضادة، فيتولد لديه شعور النفور من الاختلاف والتناقض فيحاول الابتعاد عن دائرة الصراع التي تسبب له الضيق النفسي.
عندما يرفض الفرد المعلومة الجديدة ويحصر نفسه في معتقداته المسبقة وكل مناقشة يقوم بها مع المعلومة المتنافرة لا تكون مناقشة منطقية بحيث إنه يقدم حجج تؤيد قراره وبالتالي فإنه لا يسمح لنفسه بأن يفكر بشكل منطقي ويغلق على نفسه رافض الأفكار المخالفة وفقط يعمل على تأكيد أفكار قديمة.
يرى الباحث ليون فيستينغر أن التنافر ينشأ عند اتخاذ القرارات، على سبيل المثال، في قرارت الشراء يحدث التنافر إذا كنا نختار بين شقق سكنية، يحدث التنافر عندما نبحث عن خصائص جذابة في الشقة التي لم نخترها ونشعر بالسوء بسبب النواقص الموجودة في الشقة التي اخترناها، أو كلما قمنا بعمل منافي لمعتقداتنا وعاداتنا فإننا نعيش النزاع الداخلي لهذا التضارب.

ما الذي يؤثر في حجم التنافر المعرفي؟

المعتقدات ووجهات النظر جاءت نتيجة لتراكمات من موروثات عائلية أو اجتماعية اكتسبناها في الصغر، وأي معلومة متصلة بالمخ البدائي فإن العقل يتعامل معها باهتمام وحماية ويركز على هذه المعلومة الأساسية التي تكون جزءًا من هويتنا وصورتنا الشخصية.
إن لم نكن صرحاء مع أنفسنا فستكون ردود أفعالنا محاربة للمعلومات الجديدة ودفاعية
وتتوقف درجة التنافر المعرفي على عدة عوامل: قيمة الاعتقاد الذي نؤمن به، فكلما زادت قيمة ذلك الاعتقاد، زادت نسبة التوتر الملحة للتخلص من هذا التنافر الناتج عن الأفكار المتعارضة، أيضًا جدير بالذكر أن موقف الجماعة أو الغالبية ومدى تأييدهم للاعتقاد يؤثر في الرأي.
عامل آخر مبني على طبيعتنا وارتكاز هذه المعلومة في وجداننا، فإذا كانت طبيعتنا أن نرى العالم باللونين الأبيض والأسود فقط فسنجد أن طبيعة معلوماتنا تكون مطلقة وليس لدينا مرونة فكرية نتقبل بها آراء مختلفة أو جديدة علينا، إضافة إلى إن لم نكن صرحاء مع أنفسنا فستكون ردود أفعالنا محاربة للمعلومات الجديدة ودفاعية، أخيرًا، مكانة الأشخاص الذين نتفق أو نختلف معهم، فالاختلاف مع أشخاص لا نهتم لهم يخلق تنافر أكبر من الاختلاف مع أشخاص نقدرهم.
وضع فستنغر عدة حلول للحد من هذا التنافر:
الحل الأول: إعادة تقييم السلوك كأن يترك المدخن سلوك التدخين ليتماشى مع إدراكه.
الحل الثاني: إعادة تقييم المعتقد كأن يبحث المدخن عن معلومات تقلل من خطورة التدخين، ليحافظ على اتزانه النفسي ويتماشى مع سلوكه، حتى يتخلص من أي شعور مزعج حيال تصرفه.

أكدت الأبحاث أن التنافر المعرفي قد يكون جيدًا لنا، من أجل التغيير واكتساب معرفة جديدة قد تكون مفيدة لنا للحصول على فرص لم تكن في الحسبان، لذلك على الفرد أن يلاحظ سلوكياته ويتابع أفكاره حتى يتمكن من فهم مواقفه وما يترتب عليها حتى يحدث التغيير، أيضًا، أوضحت الدور المهم الذي يلعبه التنافر من خلال معرفة ما يمكن للفرد فعله في التعامل مع الأفكار المختلفة وبالتالي تقييم ذاته وإعادة تنظيم إدراكه ليقلل من النزاع الداخلى لهذه المواقف المتكررة.

د. محمد الخالدي

رابط مختصر